أتيناكم مع موضوع لخطبة الجمعة له من الأهمية بمكان. انها خطبة عن القرآن وأثره على الفرد والمجتمع. نسوقها إليكم كأفراد وكأُسَر؛ فضلا عن الأئمة والخطباء والوُعَّاظ.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مُنَزل القرآن، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، فاتح قلوب أهل الإيمان، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله- فإن التقوى هي الحياة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: لا يمكن لإنسان في الوجود أن يحيا من غير روح، فالإنسان من غير روح جثة هامدة، ليس فيها حياة، والقرآن هو الروح، وقد قال الله جل جلاله خطابا لنبيه ﷺ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾، وليس بعد هذا التشبيه العظيم تشبيه؛ فالقرآن الكريم للقلوب كالروح للجسد، به تحيا القلوب، وتزكو النفوس، وتستنير العقول، وتنمو الفضائل، ويكون الإنسان به عند الله من السابقين الأوائل.
وإذا كان الله تبارك وتعالى قد امتن بالكتاب والإيمان على النبي ﷺ، فالمنة على غيره لازمة، فالحياة مع القرآن ليست كالحياة التي لا اتصال لها بالقرآن، واسألوا أهل القرآن ينبئوكم عن الخبر، وليس الخبر كالعيان؛ قد تجافت جنوبهم عن المضاجع، واشتغلت عيونهم عن الكرى، وأخذ عليهم القرآن بصائرهم وأبصارهم، وعقولهم وأسماعهم، وهم في دراسة له وحدانا وجماعات، قد نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.
وقد امتن الله على نبيه بالكتاب والإيمان، فحياته الشريفة بعد تنزل الكتاب عليه، ليست كحياته الشريفة قبل تنزله، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَان﴾.
يا أيها الذين آمنوا: عجبا لأمر إنسان ليس له حظ من القرآن، فليست له تلاوة لشيء من القرآن كل يوم، أو ليس له زمن يسمع فيه شيئا من القرآن، ولم يرب أولاده، ذكورهم وإناثهم على القرآن الكريم تلاوة وحفظا، ومدارسة وتعلما لحكمه وأحكامه، فتمضي عليه وعليهم الأيام والليالي وليس لهم عناية بكتاب الله ولا اشتغال به، وإذا ما قاموا إليه لتلاوة قاموا إليه بالموافقات، فهو ليس عندهم من الأوليات والمهمات.
والواجب أن يكون القرآن قبل كل شيء، وأول كل شيء، تلاوته مقدمة على كل عمل، وحفظه ودراسته في موعد يكون بين الإنسان والقرآن، يشتاق إليه، ويهوي قلبه إليه، يكون له روضة من رياض الجنة، يستريح فيها من هذه الحياة وأعبائها إلى جنة كتاب الله، تلك الجنة التي عرف النبي ﷺ منزلتها، وعرفها المؤمنون الصادقون في كل زمان ومكان، من عهد النبي ﷺ إلى يوم يبعثون؛ فتجدهم ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، وما الجزاء؟ إنه الجزاء الأوفى الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
عباد الله: إن القرآن الكريم يجب أن يكون حاضرا مع الإنسان في تفاصيل حياته كلها، حاضرا مع نفس الإنسان، حاضرا مع أسرته ومجتمعه، حاضرا في البيت والمدرسة والمسجد والطريق والعمل، حاضرا مع الأب والأم والابن والابنة والأخ والأخت، حاضرا مع المعلم والمعلمة والطالب والطالبة، حاضرا مع أخذ الإنسان وعطائه، وبيعه وشرائه، ومعاملاته وتصرفاته؛ متذكرا أن عنده رسالة الله، مستحضرا أنه يحمل أمانة الله، عارفا معرفة حقيقية نابعة من قلب حي أنه من أتباع رسول الله ﷺ، نعم، من أتباع رسول الله الذي كان قرآنا يمشي على الأرض، من أتباع رسول الله الذي كان خلقه القرآن.
ومن ذا الذي له صلة حقيقية بالقرآن – أيها المؤمنون – ويشقى! ألم ينزل الله القرآن لنسعد! ألم ينزله إلينا لنحيا حياة طيبة! ألم ينزله علينا لننال ثواب الدنيا والآخرة! ألم يقل الله لنبيه الأمين وللناس في كل زمان ومكان: ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ويا من يريد بلوغ درجة الخيرية، ألم تعلم أن درجة الخيرية عند الله تكون لمن تعلم القرآن وعلمه؛ فإن الذي لا ينطق عن الهوى يقول: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، ألا يعلم الآباء والأمهات، والمعلمون والمعلمات، والمربون والمربيات، أن القرآن العظيم أول ما ينبغي أن يتعلم؛ فإن رسول الله ﷺ يقول: «علموا أولادكم القرآن، فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو».
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المؤمنين الصادقين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الذكر الحكيم قد جعله الله نورا يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم، يضيء للمؤمنين طريقهم في هذه الحياة الدنيا، فتكون سراؤهم خيرا لهم، وتكون ضراؤهم خيرا لهم، ويتجاوزون صعوباتها، ويقطعون عقباتها، ويواجهون مشكلاتها وتحدياتها.
وما حال إنسان يمضي عمره وهو بعيد عن القرآن، تجده يتخبط في الظلمات، وإن ظهرت أحواله للعيان أنها منتظمة، وليست من الانتظام في شيء! فالإنسان ليس بدنا فحسب، بل إن الإنسان روح وبدن، والتي تسعد وتشقى هي الروح؛ فالجسد وعاء فقط، وقيمة الوعاء بما فيه لا في الوعاء نفسه.
وكيف يسعد من أسكن روحه في بيت من الظلمات! فمن أسكن روحه في الظلمات كان بعيدا عن السعادة وعن حياة السعداء، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن المعرضين عن ذكره يعيشون حياة التعاسة والشقاء، فقال وقوله الحق: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.
وإذا كان الوليد بن المغيرة المشرك قد قال في القرآن: “إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”، فكيف بمن يؤمن بالله ويتبع رسول الله، فإن أثر القرآن على قلوبهم عظيم، وانعكاسه على أرواحهم عجيب، فهم أهل الحياة الطيبة، قد أشربت قلوبهم حب القرآن، وانطلق كل عضو من أبدانهم، بل كل خلية من خلاياهم في ميادين العبادة الدائمة لله في صحبة القرآن، وتلك هي السعادة التي يبحث عنها أهل الحكمة ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾.
والعجب ممن يبحث عن السعادة وهي بين يديه في كل وقت وفي كل حين، والحصول عليها أقرب إلى الإنسان من الحصول على الماء والهواء ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَاب﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
وهذا مقترحنا لكم أيضًا: خطبة مكتوبة عن فضل القرآن الكريم وبعض معانيه التي جاء بها