مع خطبة رائِعة في شهر رمضان المبارك، إنها خطبة جمعة مكتوبة، تحت عنوان: البرامج الرمضانية. ألقاها فضيلة الشيخ شعيب العلمي، من مسجد عثمان بن عفَّان.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: في الوقت الذي كان رمضان للموفقين فرصة للتوبة والإصلاح، فرصة للازدياد من الحسنات والتكفير عن الخطيئات، فرصة للتعود على العادات الخيرات، وترك العادات السيئات، فإنّه صار للمخذولين فرصة لإفساد الأمم والمجتمعات، وتضييع أوقاتهم بالترهات بله المحرمات، هذه هي الحقيقة التي باتت ظاهرة للعيان، واضحة بأجلى بيان، في كلّ رمضان، فها نحن نرى وسائل الإعلام، من القنوات الفضائية، والمحطات التلفزيونية، جيشت جيوشها، وجندت جنودها، فأعدت العدة لبث شرورها ونشر باطلها، من خلال المسلسلات الغوية الساقطة، والكمرات الخفية التافهة، والسهرات المختلطة الماجنة، فيا يولهم من وعيد ربهم؛ (إن الذين يبحون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).
عباد الله: حُق لنا نسأل سؤالا محيرا، لماذا رمضان بالضبط؟ ما علاقة هذا الشهر الفضيل بالضحك، ما علاقته بالترفيه، ويا ليته كان ضحكا مباحا أو ترفيها بريئا، لما تكلمنا عنه، ولكنّه عسل يسيرٌ في سمٍّ غزير، لا يخلو من منكر وفحش، حتى أصبحنا نترحم على البرامج التلفزيونية القديمة.
عباد الله: إن الشيطان أخذ على عاتقه عهدا لم ينقضه ضدنا، في رمضان وفي غير رمضان، بأن يضلنا نحن بني الإنسان، وأن يقف حجر عثرة أمام دخولنا جنة الرحمن، كما أُخرج منها في أول الزمان، فقال: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين)، وقال: (ولا أضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا).
ولما علم أنه في هذا الشهر مصفد غائب، وعن إغوائنا ضعيف خائب، اتخذ نوابا من الإنس فكانوا له أولياء، وتبرعوا له بالخدمة بأن يقوموا بدوره فكانوا للمهمة أوفياء، فتجدهم يشتغلون على أشهر مديدة يحضرون لبرامجهم الرمضانية ليفسدوا على الناس دينهم وأخلاقهم وصومهم وعبادتهم، فهو مسلسلٌ وأعوانه يسلسلوننا بمسلسلاتهم، وهو مقيدٌ ونوابه يقيدوننا ببرامجهم، ألا فانتبهوا لكيدهم ولا تنخدعوا بمكرهم، واحذروا الوقوع في مصيدتهم، فو الله ما يريدون لكم خيرا، وإن زعموا أنهم يسعون لمتعتكم وترفيهكم، فالله ﷻ يقول عن نفسه وعنهم: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما).
عباد الله: تأملوا كيف يختارون لكم البرامج الشائقة، إما مسلسل مثير أو كمرة خفية أو سهرات ماجنة، تأملوا كيف يختارون لكم الشخصيات في أبهى صورة وأحسن هيئة وأغرى أداء، حتى أوقات البث يختارونها لكم بدقة عالية وعناية فائقة، فما أن يمهلوك يسيرا من الوقت لكي تفطر حتى يعرضوا عليك ما يسمّرونك به في مكانك لا تبرحه، ليضيع عليك خير كثير، يضيع الصّف الأول وأجر التبكير، ويضيع عليك سماع ما يلقى في المسجد من الدروس ومجالس التذكير، تثقل عليك العبادة فترى القليل منها غزيرا، والخفيف منها متعبا، ومن الناس من تقيده تلك البرامج فلا يخرج للمسجد أصلا ولا يقيم للصلاة وزنا، ومن أفلت من قبضتهم في ذلك الوقت فإنّهم لم ينسوه، فقد ادخروا له تلك البرامج والمسلسلات على المواقع الإلكترونية في رسالة منهم، إلى أنّك إن تغيبت عنّا، فنحن في خدمتك، وعلى أحرّ من الجمر على (اليوتوب) ننتظرك.
وأما الموفقون الذين لا يعبؤون بتلك البرامج والمسلسلات، فبارك الله في سعيهم وثبت الله أقدامهم وسدد الله خطاهم جعلنا الله وإياكم أجمعين منهم، ومع ذلك فلينتبهوا أن المسؤولية تلحقهم فيمن يتركون وراءهم في البيوت من الأهلين، من الزوجات والبنات والبنين، فلا تنقذ نفسك وتنس أهلك، فنجاتك في نجاتهم، فلا تغفل عنهم، ولا تتركهم لفتن تلك البرامج تفسدهم، فهذا من صميم خطة الشيطان، قال ﷻ : (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ).
عباد الله: تذكروا أن رمضان نعمة عظيمة وفقكم الله لإدراكها، ومن شكر نعمته عليكم أن تعتزلوا تلك البرامج والمسلسلات، فإن فيها منكرات تنافي المقصد الأسمى من الصيام، فليس رمضان لتجويع البطون وتنشيف الحناجر، وإنما هو لتطهير القلوب وتزكية النفوس، (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وليس من التقوى في شيء أن يختم العبد يوم صيامه بمشاهدات فيها نساء كاسيات عاريات، فاتنات مفتنات، أوفيها الموسيقى والغناء وإشاعة للمنكر، وقتل للفضيلة، ونشر للرذيلة والفحشاء، من خلال قصص العلاقات والخيانات والجرائم والعصابات، ليس ذلك من التقوى ولا من الصيام في شيء، عن أبي هريرة 0 قال : قال رسول الله ﷺ: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنّما الصيام من اللغو والرفث) [الحاكم]، فمن أبى إلا الإصرار على تلك المشاهدات، فما أوفر حظه من قوله ﷺ: ( رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ([ابن ماجه].
الخطبة الثانية
عباد الله: لقد تفرجنا من قبل ومن بعد، هذه البرامج والمسلسلات في رمضانات كثيرة، فماذا استفدنا؟ أما المتعة فذهبت، وأما الأوزار فثبتت، والحسنات ضاعت، والأخلاق والقيم تدمرت فينا أو في بأبنائنا وأسرنا، إلا من رحم الله. فلا تدخروا عباد الله جهدا في التخلص من هذه الآفة، ابذلوا وسعكم ولا تستصعبوا تركها، فليس تركها بمستحيل، واستبدلوها بمتابعة البرامج الهادفة والمواعظ المحفزة، فهي ولله الحمد متوفرة لمن طلبها من بعض القنوات الفضائية أو الإلكترونية.
إن سلفنا الصالح من الصحابة عليهم الرضوان، والتابعين لهم بإحسان، قد ضحوا بأنفسهم وضحوا بأموالهم وضحوا بأهليهم وضحوا بكل ما يمكن أن يضحوا به في سبيل أن يستمسكوا بدينهم، أفلا نستحي من أنفسنا أن نعجز عن التضحية بهاته البرامج التافهة من أجل رضا ربنا، ومن أجل أن يصلح لنا رمضاننا ؟
عباد الله: هي رسالة وددنا أن تصل لقلب كل قائم على تلك القنوات والبرامج، أن يتقوا الله في رمضان، وأن يتقوا في أمة القرآن، قال ﷻ : (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، إن لم يكن بدافع الحلال والحرام فعلى الأقل بدافع القيم بدافع الحشمة والحياء والاحترام، فإن وصلت الرسالة فذاك، وإن لم تصل فيكفيني أن بين يدي أقواما مؤمنين، يحبّون الله ورسوله ﷺ، ويعظمون شعائر الله وحرماته، يذكرون فيتذكرون، ويسمعون فيستجيبون، وسيبذلون وسعهم في إنكار هذا المنكر بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم، لإنقاذ أنفسهم ومن حولهم، والمحافظة على صيامهم وشهرهم، من مغبة تلك البرامج وشؤمها، قال الله تعالى : (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، هذا الظن بكم أيها الإخوة الكرام، تقبل الله منا ومنكم الصلاة الصيام والقيام، وأعاننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته في ما بقي لنا من الأيام، وكتب الله لنا حسن الختام.
شاهد هنا أيضًا: خطبة عن القرآن وأثره على الفرد والمجتمع